ستقولون أنَّه مجرد مسلسل، وسأقول لكم أنّنا نعيش في عصرٍ تخنقه هذه “المجردات”. في عصرٍ خفّ فيه الإقبال على القراءة، وأصبح الإعلام المرئي أكثر الوسائل قدرةً على تسويق الأفكار وزرعها، أصبحت مسؤوليتنا انتقادُ أي عملٍ لا يراعي حقوق الانسان، ولا يضيف إلى المشاهد قيماً جديدةً وصالحةً من شأنها إعلاءُ مجتمعنا وثقافتنا. في الحقيقة، إنه واجبُ وحقٌّ في آنٍ معاً.

لا لباب الحارة

باب الحارة-حقوق المرأة-سوريا

كل عام، يطالعنا جزءٌ جديدٌ من المسلسل السوري الدرامي “باب الحارة”، حتى بتنا نشعر أن هذا المسلسل جزءٌ لا يتجزأ من تقاليد شهر رمضان، وعلى الرغم من مرور 7 سنوات على صدور الجزء الأول، ورحيل أكثر من ممثلٍ قديرٍ عن هذا العمل، إلا أنّ “باب الحارة” لا يزال واحداً من أكثر المسلسلات السورية والعربية نجاحاً وشعبية. و قد حلّ هذا المسلسل في عام 2008 ضمن قائمة البرامج العشرة الأكثر مشاهدة عالمياً، كما أنه قد تصدّر قائمة المسلسلات العربية الأكثر مشاهدة في العام الفائت.

قد يستهجن البعض انتقادي لمسلسلٍ ناجحٍ إلى هذا الحدّ، وقد يعتبر آخرون أنني أشوه عمداً واحداً من الأعمال التي تمجدّ بطولة وعنفوان الشعب السوري وتمردّه على الاحتلال. إلا أنني أرفض وبشكلٍ قاطع، أن ننجرف كلنا وراء هذه الفكرة، وأن نشارك عن قصدٍ أو غير قصد في تمجيد عملٍ، وزمنٍ كانت فيه البطولة تُبنى بأيدٍ رجالٍ تعوّدوا أن يدفنوا نساءهم في المنازل، ويتركونهم وراءهم كقطعةِ أثاثٍ، عملُها الأوحد والأسمى هو أن تخضع بدون قيدٍ أو شرطٍ لرجلها، الذي لا يمانع وبكل سلاسةٍ وبساطة، أن يتزوج عليها بدل المرّة ثلاثة وأن يتغنى ليل نهار بسيطرته المطلقة على كل تفاصيل حياتها.

اعذروني، لكنني لا أجد أي فخرٍ أو مفخرة في زمنٍ كانت تجلس فيه المرأة عند أقدام زوجها تتلقى الأوامر وتنفذها…
اعذروني، لكنني لا أجد أي فخرٍ أو مفخرة في نساءٍ راضخاتٍ، خانعاتٍ لرجالٍ اختصروا الرجولة بإصدار الأوامر والتسلّط…
اعذروني، لكنني لا أجد أي فخرٍ أو مفخرة في رجال حللوا لأنفسهم ما حرموه قطعاً على نسائهم…
اعذروني لكنني لا أجد أي فخرٍ أو مفخرة في كلمات “حاضر” و “أمرك” و “أنتا بتأمر ابن عمي”…

“باب الحارة” بأجزائه السبعة، هو تجسيدٌ صارخٌ لثقافةٍ ذكورية، وإن خفّت معالمها مع فارق السنين بين زمن “باب الحارة” وزمننا الحالي، إلّا أنها ما زالت تسيطر على مجتمعاتنا العربية وثقافتنا وتراثنا وطريقة تربيتنا لبناتنا وأبنائنا. وإن كنتم تستغربون كلامي، اسألوا أنفسكم أي نوعٍ من الثقافة نهدي أجيالنا الصاعدة بهذه الأعمال؟ وما صِحّة أن نجعل من رجلٍ ذكوريٍ متسلط كـ “عصام” صورةً جميلةً في أذهان بناتنا وأحلامهن؟

نجاحُ أي عملٍ فنيٍ لا يجب أن يقاس فقط بنسب المشاهدة التي يحققها، إنما أيضاً بنوعية التأثير الذي يتركه هذا العمل على المجتمع وبنوعية الأفكار التي يسوّق لها. قد لا تبدو لكثيرين الهوة الثقافية التي يعكسها “باب الحارة” جليةً واضحة، لكن لو حاولنا أن نسأل أنفسنا “هل يقبل المشاهد العربي بعملٍ درامي يعتبر تعنيف الأطفال وقمعهم أمرأ طبيعياً؟ أو هل يتقبل المشاهد العربي عملاً فنياً يقدسّ الطائفية وزرع الفتن؟” ستكون الإجابةُ واضحةً، وسيكون الرفض العربي ساطعاً كالشمس. ويبقى السؤال “لماذا يتقبل هذا المشاهد نفسه عملاً يمجّد الذكورية، ويعتبر احتكار النساء وقمعهن وحبسهن بحجج الزواج والسترة أمراً طبيعياً لا يستحق أن نتوقف عنده؟”.

أعلم أن باب الحارة سيستمر، وأن أعمالاً كثيرة مثله  تعكس أفكاراً كأفكاره ستستمر بالظهور، طالما لم يقف المشاهد العربي بوجهها، ويفرض ولو لمرة على الإعلام قرارته وحدوده، وأعلم أن مجتمعاً لا يزال يعيش تحت وطأة الذكورية الخانقة، من الصعب أن يستيقظ بين ليلة وضحاها ليملك فجأةً القدرة على المحاسبة والمساءلة. لكن هذا لا يعني أبداً أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا “العهر” الفني، وأن نسمح لإعلامنا أن يضيف الي تشويهاتنا الثقافية السابقة ندوباً جديدة، فقط طمعاً بحصد عدد أكبر من المشاهدين!

كلنا مسؤولون أمام أنفسنا وأمام الأجيال القادمة، عن نوع الثقافة التي سنورثها لهم، وكلنا قادرون على أن نكون عنصراً فعالاً في التغيير. أمسكوا أجهزة تحكمكم، وتحكموا بوعيٍ وإدراكٍ بالأفكار التي تدخل منازلكم وعقول أولادكم، قفوا أمام تلفازكم، وقولوا لا للفنّ الضال، لا “لباب الحارة”.

نعم، ستقولون أنه مجرد مسلسل، وسأقول لكم في صراعنا نحو التقدم، وفي حركة سيرنا نحو المستقبل، كل “مجردٍ” هو أمرٌ يستحق التوقف عنده.